فصل: ذكر عودة الحاج على الشام وما كان من الظاهر إليهم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر عدة حوادث:

وفيها كان بإفريقية غلاء شديد، ومجاعة عظيمة لم يكن مثلها في تعذر الأقوات، إلا أنه لم يمت فيها أحد بسبب الجوع، ولم يجد الناس كبير مشقة.
وفيها، في شهر رمضان، استوزر مشرف الدولة أبا الحسين بن الحسن الرخجي، ولقب مؤيد الملك، وامتدحه مهيار وغيره من الشعراء وبني مارستانا بواسط، وأكثر فيه من الأدوية والأشربة، ورتب له الخزان والأطباء، ووقف عليه الوقوف الكثيرة، وكان يعرض عليه الوزارة فيأباها، فلما قتل أبو غالب ألزمه بها مشرف الدولة فلم يقدر على الامتناع.
وفيها توفي أبو الحسن علي بن عيسى السكري شاعر السنة، ومولده ببغداد في صفر سنة سبع وخمسين وثلاثمائة. وكان قد قرأ الكلام على القاضي أبي بكر بن الباقلاني، وإنما سمي شاعر السنة لأنه أكثر مدح الصحابة، ومناقضات شعراء الشيعة.
وفيها توفي أبو علي عمر بن محمد بن عمر العلوي، وأخذ السلطان ماله جميعه.
وفيها توفي أبو عبد الله بن المعلم، فقيه الإمامية، ورثاه المرتضى. ثم دخلت:

.سنة أربع عشرة وأربعمائة:

.ذكر استيلاء علاء الدولة على همذان:

في هذه السنة استولى أبو جعفر بن كاكويه على همذان وملكها وكذلك غيرها مما يقاربها.
وسبب ذلك أن فرهاذ بن مرداويج الديلمي، مقطع بروجرد، قصده سماء الدولة أبو الحسن بن شمس الدولة بن بويه، صاحب همذان، وحصره فالتجأ فرهاذ إلى علاء الدولة، فحماه ومنع عنه، وسارا جميعاً إلى همذان فحصراها وقطعا الميرة عنها، فخرج إليهما من بها من العسكر، فاقتتلوا فرحل علاء الدولة إلى جرباذقان، فهلك من عسكره ثلاثمائة رجل من شدة البرد.
فسار إليه تاج الملك القوهي، مقدم عسكر همذان، فحصره بها، فصانع علاء الدولة الأكراد الذين مع تاج الملك، فرحلوا عنه، فخلص من الحصار، وشرع بالتجهز ليعاود حصار همذان، فأكثر من الجموع، وسار إليها، فلقيه سماء الدولة في عساكره ومعه تاج الملك، فاقتتلوا، فانهزم عسكر همذان، ومضى تاج الملك إلى قلعة فاحتمى بها، وتقدم علاء الدولة إلى سماء الدولة، فترجل له وخدمه، وأخذه وأنزله في خيمته، وحمل إليه المال وما يحتاج إليه، وسار وهو معه إلى القلعة التي بها تاج الملك، فحصره وقطع الماء عن القلعة، فطلب تاج الملك الأمان فأمنه، فنزل إليه، ودخل معه همذان.
ولما ملك علاء الدولة همذان سار إلى الدينور فملكها، ثم إلى سابور خواست فملكها أيضاً، وجمع تلك الأعمال، وقبض على أمراء الديلم الذين بهمذان، وسجنهم بقلعة عند أصبهان، وأخذ أموالهم وأقطاعهم، وأبعد كل من فيه شر من الديلم، وترك عنده من يعلم أنه لا شر فيه، وأكثر القتل، فقامت هيبته، وخافه الناس، وضبط المملكة. وقصد حسام الدولة أبا الشوك، فأرسل إليه مشرف الدولة يشفع فيه، فعاد عنه.

.ذكر وزارة أبي القاسم المغربي لمشرف الدولة:

في هذه السنة قبض مشرف الدولة على وزيره مؤيد الملك الرخجي في شهر رمضان، وكانت وزارته سنتين وثلاثة أيام.
وكان سبب عزله أن الأثير الخادم تغير عليه لأنه صادر ابن شعيا اليهودي على مائة ألف دينار، وكان متعلقاً على الأثير، فسعى وعزله، واستوزر بعده أبا القاسم الحسين بن علي بن الحسين المغربي ومولده بمصر سنة سبعين وثلاثمائة، وكان أبوه من أصحاب سيف الدولة بن حمدان، فسار إلى مصر، فتولى بها، فقتله الحاكم، فهرب ولده أبو القاسم إلى الشام، وقصد حسان بن المفرج بن الجراح الطائي، وحمله على مخالفة الحاكم والخروج عن طاعته، ففعل ذلك، وحسن له أن يبايع أبا الفتوح الحسن بن جعفر العلوي، أمير مكة، فأجابه إليه، واستقدمه إلى الرملة، وخوطب بأمير المؤمنين.
فأنفذ الحاكم إلى حسان مالاً جليلاً، وأفسد معه حال أبي الفتوح، فأعاده حسان إلى وادي القرى، وسار أبو الفتوح منه إلى مكة. ثم قصد أبو القاسم العراق، واتصل بفخر الملك، فاتهمه القادر بالله لأنه من مصر، فأبعده فخر الملك، فقصد قرواشاً بالموصل، فكتب له، ثم عاد عنه، وتنقلت به الحال إلى أن وزر بعد مؤيد الملك الرخجي.
وكان خبيثاً، محتالاً، حسوداً، إذا دخل عليه ذو فضيلة سأله عن غيرها ليظهر للناس جهله.
وفيها، في المحرم، قدم مشرف الدولة إلى بغداد، ولقيه القادر بالله في الطيار، وعليه السواد، ولم يلق قبله أحداً من ملوك بني بويه.
وفيها قتل أبو محمد بن سهلان، قتله نبكير بن عياض عند إيذج.

.ذكر الفتنة بمكة:

في هذه السنة كان يوم النفر الأول يوم الجمعة، فقام رجل من مصر، بإحدى يديه سيف مسلول، وفي الأخرى دبوس، بعدما فرغ الإمام من الصلاة، فقصد ذلك الرجل الحجر الأسود كأنه يستلمه، فضرب الحجر ثلاث ضربات بالدبوس، وقال: إلى متى يعبد الحجر الأسود ومحمد وعلي؟ فليمنعني مانع من هذا، فإني أريد أن أهدم البيت. فخاف أكثر الحاضرين وتراجعوا عنه، وكاد يفلت، فثار به رجل فضربه بخنجر فقتله، وقطعه الناس وأحرقوه، وقتل ممن اتهم بمصاحبته جماعة وأحرقوا، وثارت الفتنة، وكان الظاهر من القتلى أكثر من عشرين رجلاً غير من اختفى منهم.
وألح الناس، ذلك اليوم، على المغاربة والمصريين بالنهب والسلب، وعلى غيرهم في طريق منى إلى البلد. فلما كان الغد ماج الناس واضطربوا، وأخذوا أربعة من أصحاب ذلك الرجل، فقالوا: نحن مائة رجل، فضربت أعناق هؤلاء الأربعة، وتقشر بعض وجه الحجر من الضربات، فأخذ ذلك الفتات وعجن بلك وأعيد إلى موضعه.

.ذكر فتح قلعة من الهند:

في هذه السنة أوغل يمين الدولة محمود بن سبكتكين في بلاد الهند، فغنم وقتل، حتى وصل إلى قلعة على رأس جبل منيع، ليس له مصعد إلا من موضع واحد، وهي كبيرة تسع خلقاً، وبها خمسمائة فيل، وفي رأس الجبل من الغلات، والمياه، وجميع ما يحتاج الناس إليه، فحصرهم يمين الدولة، وأدام الحصار، وضيق عليهم، واستمر القتال، فقتل منهم كثير.
فلما رأوا ما حل بهم أذعنوا له، وطلبوا الأمان، فأمنهم وأقر ملكهم فيها على خراج يأخذه منه، وأهدى له هدايا كثيرة، منها طائر على هيئة القمري من خاصيته إذا أحضر الطعام وفيه سم دمعت عينا هذا الطائر وجرى منهما ماء وتحجر، فإذا حك وجعل على الجراحات الواسعة ألحمها.

.ذكر عدة حوادث:

فيها توفي القاضي عبد الجبار بن أحمد المعتزلي الرازي، صاحب التصانيف المشهورة في الكلام وغيره، وكان موته بمدينة الري، وقد جاوز تسعين سنة، وأبو عبد الله الكشفلي، الفقيه الشافعي، وأبو جعفر محمد بن أحمد الفقيه الحنفي النسفي، وكان زاهداً مصنفاً، وهلال بن محمد بن جعفر أبو الفتح الحفار، ومولده سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، وكان عالماً بالحديث، عالي الإسناد. ثم دخلت:

.سنة خمس عشرة وأربعمائة:

.ذكر الخلف بين مشرف الدولة والأتراك وعزل الوزير المغربي:

في هذه السنة تأكدت الوحشة بين الأثير عنبر الخادم، ومعه الوزير ابن المغربي، وبين الأتراك، فاستأذن الأثير والوزير ابن المغربي الملك مشرف الدولة في الانتزاح إلى بلد يأمنان فيه على أنفسهما، فقال: أنا أسير معكما. فساروا جميعاً ومعهم جماعة من مقدمي الديلم إلى السندية، وبها قرواش، فأنزلهم، ثم ساروا كلهم إلى أوانا.
فلما علم الأتراك ذلك عظم عليهم، وانزعجوا منه، وأرسلوا المرتضى وأبا الحسن الزينبي وجماعة من قواد الأتراك يعتذرون، ويقولون: نحن العبيد، فكتب إليهم أبو القاسم المغربي: إنني تأملت ما لكم من الجامكيات، فإذا هي ستمائة ألف دينار، وعملت دخل بغداد، فإذا هو أربعمائة ألف دينار، فإن أسقطتم مائة ألف دينار تحملت بالباقي، فقالوا: نحن نسقطها، فاستشعر منهم أبو القاسم المغربي، فهرب إلى قرواش، فكانت وزارته عشرة أشهر وخمسة أيام، فلما أبعد خرج الأتراك فسألوا الملك والأثير الانحدار معهم، فأجابهم إلى ذلك وانحدروا جميعهم.

.ذكر الفتنة بالكوفة ووزارة أبي القاسم المغربي لابن مروان:

في هذه السنة وقعت فتنة بالكوفة بين العلويين والعباسيين.
وسببها أن المختار أبا علي بن عبيد الله العلوي وقعت بينه وبين الزكي أبي علي النهرسابسي، وبين أبي الحسن علي بن أبي طالب بن عمر مباينة، فاعتضد المختار بالعباسيين، فساروا إلى بغداد، وشكوا ما يفعل بهم النهرسابسي، فتقدم الخليفة القادر بالله بالإصلاح بينهم مراعاة لأبي القاسم الوزير المغربي لأن النهرسابسي كان صديقه، وابن أبي طالب كان صهره، فعادوا، واستعان كل فريق بخفاجة، فأعان كل فريق من الكوفيين طائفة من خفاجة، فجرى بينهم قتال، فظهر العلويون، وقتل من العباسيين ستة نفر، وأحرقت دورهم ونهبت، فعادوا إلى بغداد، ومنعوا من الخطبة يوم الجمعة، وثاروا، وقتلوا ابن أبي العباس العلوي وقالوا: إن أخاه كان في جملة الفتكة بالكوفة.
فبرز أمر الخليفة إلى المرتضى يأمره بصرف ابن أبي طالب عن نقابة الكوفة، وردها إلى المختار، فأنكر الوزير المغربي ما يجري على صهره ابن أبي طالب من العزل، وكان عند قرواش بسر من رأى، فاعترض أرحاء كانت للخليفة بدرزيجان، فأرسل الخليفة القاضي أبا جعفر السمناني في رسالة إلى قرواش يأمره بإبعاد المغربي عنه، ففعل، فسار المغربي إلى ابن مروان بديار بكر، وغضب الخليفة على النهرسابسي، وبقي تحت السخط إلى سنة ثماني عشرة وأربعمائة، فشفع فيه الأتراك وغيرهم، فرضي عنه، وحلفه على الطاعة، فحلف.

.ذكر وفاة سلطان الدولة وملك ولده أبي كاليجار وقتل ابن مكرم:

في هذه السنة، في شوال، توفي الملك سلطان الدولة أبو شجاع بن بهاء الدولة أبي نصر بن عضد الدولة بشيراز، وكان عمره اثنتين وعشرين سنة وخمسة أشهر. وكان ابنه أبو كاليجار بالأهواز، فطلبه الأوحد أبو محمد بن مكرم ليملك بعد أبيه، وكان هواه معه، وكان الأتراك يريدون عمه أبة الفوارس ابن بهاء الدولة، صاحب كرمان، فكاتبوه يطلبونه إليهم أيضاً، فتأخر أبو كاليجار عنها، فسبقه عمه أبو الفوارس إليها فملكها.
وكان أبو المكارم بن أبي محمد بن مكرم قد أشار على أبيه، لما رأى الاختلاف، أن يسير إلى مكان يأمن فيه على نفسه، فلم يقبل قوله، فسار وتركه وقصد البصرة، فندم أبوه حيث لم يكن معه، فقال له العادل أبو منصور ابن مافنة: المصلحة أن تقصد سيراف، وتكون مالك أمرك، وابنك أبو القاسم بعمان، فتحتاج الملوك إليك. فركب سفينة لمضي إليها، فأصابه برد، فبطل عن الحركة، وأرسل العادل بن مافنة إلى كرمان لإحضار أبي الفوارس، فسار إليه العادل وأبلغه رسالة ابن مكرم باستدعائه، فسار مجداً ومعه العادل، فوصلوا إلى فارس، وخرج ابن مكرم يلتقي أبا الفوارس ومعه الناس، فطالبه الأجناد بحق البيعة، فأحالهم على ابن مكرم، فتضجر ابن مكرم، فقال له العادل: الرأي أن تبذل مالك وأموالنا حتى تمشي الأمور، فانتهره فسكت، وتلوم ابن مكرم بإيصال المال إلى الأجناد، فشكوه إلى أبي الفوارس، فقبض عليه وعلى العادل بن مافنة، ثم قتل ابن مكرم واستبقى ابن مافنة.
فلما سمع ابنه أبو القاسم بقتله صار مع الملك أبي كاليجار وأطاعه، وتجهز أبو كاليجار، وأقام بأمره أبو مزاحم صندل الخادم، وكان مربيه، وساروا بالعساكر إلى فارس، فسير عمه أبو الفوارس عسكراً مع وزيره أبي منصور الحسن بن علي الفسوي لقتاله، فوصل أبو كاليجار والوزير متهاون به لكثرة عسكره، فأتوه وهو نائم، وقد تفرق عسكره في البلد يبتاعون ما يحتاجون إليه، وكان جاهلاً بالحرب، فلما شاهدوا أعلام أبي كاليجار شرع الوزير يرتب العسكر، وقد داخلهم الرعب، فحمل عليهم أبو كاليجار وهم على اضطراب، فانهزموا، وغنم أبو كاليجار وعسكره أموالهم، ودوابهم، وكل مالهم، فلما انتهى خبر الهزيمة إلى عمه أبي الفوارس سار إلى كرمان، وملك أبو كاليجار بلاد فارس ودخل شيراز.

.ذكر عود أبي الفوارس إلى فارس وإخراجه عنها:

ولما ملك أبو كاليجار بلاد فارس ودخل شيراز جرى على الديلم الشيرازية من عسكره ما أخرجهم عن طاعته، وتمنوا معه أنهم كانوا قتلوا مع عمه.
وكان جماعة من الديلم بمدينة فسا في طاعة أبي الفوارس، وهم يريدون أن يصلحوا حالهم مع أبي كاليجار ويصيروا معه، فأرسل إليهم الديلم الذين بشيراز يعرفونهم ما يلقون من الأذى، ويأمرونهم بالتمسك بطاعة أبي الفوارس، ففعلوا ذلك.
ثم إن عسكر أبي كاليجار طالبوه بالمال، وشغبوا عليه، فأظهر الديلم الشيرازية ما في نفوسهم من الحقد، فعجز عن المقام معهم، فسار عن شيراز إلى النوبنذجان، ولقي شدة في طريقه، ثم انتقل عنها لشدة حرها، ووخامة هوائها، ومرض أصحابه، فأتى شعب بوان فأقام به.
فلما سار عن شيراز أرسل الديلم الشيرازية إلى عمه أبي الفوارس يحثونه على المجيء إليهم، ويعرفونه بعد أبي كاليجار عنه، فسار إليهم، فسلموا إليه شيراز، وقصد إلى أبي كاليجار بشعب بوان ليحاربه ويخرجه عن البلاد، فاختار العسكران الصلح، فسفروا فيه، فاستقر لأبي الفوارس كرمان وفارس، ولأبي كاليجار خوزستان، وعاد أبو الفوارس إلى شيراز، وسار أبو كاليجار إلى أرجان.
ثم إن وزير أبي الفوارس خبط الناس، وأفسد قلوبهم، وصادرهم، وجاز به، مال لأبي كاليجار، والديلم الذين معه، فأخذه، فحينئذ حث العادل ابن مافنة صندلاً الخادم على العود إلى شيراز، وكان قد فارق بها نعمة عظيمة، وصار مع أبي كاليجار، وكان الديلم يطيعونه، فعادت الحال إلى أشد مما كانت عليه، فسار كل واحد من أبي كاليجار وعمه أبي الفوارس إلى صاحبه، فالتقوا واقتتلوا، فانهزم أبو الفوارس إلى داربجرد وملك أبو كاليجار فارس، وعاد أبو الفوارس فجمع الأكراد فأكثر، فاجتمع معه منهم عشرة آلاف مقاتل، فالتقوا بين البيضاء وإصطخر فاقتتلوا أشد من القتال الأول، فعاود أبو الفوارس الهزيمة، فسار إلى كرمان، واستقر ملك أبي كاليجار بفارس سنة سبع عشرة وأربعمائة، وكان أهل شيراز يكرهونه.

.ذكر خروج زناتة والظفر بهم:

في هذه السنة خرج بإفريقية جمع كثير من زناتة، فقطعوا الطريق، وأفسدوا بقسطيلية ونفزاوة، وأغاروا وغنموا، واشتدت شوكتهم، وكثر جمعهم. فسير إليهم المعز بن باديس جيشاً جريدة، وأمرهم أن يجدوا السير ويسبقوا أخبارهم، ففعلوا ذلك، وكتموا خبرهم، وطووا المراحل حتى أدركوهم وهم آمنون من الطلب، فوضعوا فيهم السيف، فقتل منهم خلق كثير، وعلق خمسمائة رأس في أعناق الخيول وسيرت إلى المعز، وكان يوم دخولها يوماً مشهوداً.

.ذكر عودة الحاج على الشام وما كان من الظاهر إليهم:

في هذه السنة عاد الحجاج من مكة إلى العراق على الشام لصعوبة الطريق المعتاد، فلما وصلوا إلى مكة بذل لهم الظاهر العلوي، صاحب مصر، أموالاً جليلة وخلعاً نفيسة، وتكلف شيئاً كثيراً، وأعطى لكل رجل في الصحبة جملة من المال ليظهر لأهل خراسان ذلك.
وكان على تسيير الحجاج الشريف أبو الحسن الأقساسي، وعلى حجاج خراسان حسنك نائب يمين الدولة بن سبكتبكين، فعظم ما جرى على الخليفة القادر بالله، وعبر حسنك دجلة عند أوانا، وسار إلى خراسان، وتهدد القادر بالله ابن الأقساسي، فمرض فمات، ورثاه المرتضي وغيره وأرسل إلى يمين الدولة في المعنى، فسير يمين الدولة الخلع التي خلعت على صاحبه حسنك إلى بغداد فأحرقت.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة تزوج السلطان مشرف الدولة بابنة علاء الدولة بن كاكويه، وكان الصداق خمسين ألف دينار، وتولى العقد المرتضى.
وفيها قلد القاضي أبو جعفر السمناني قضاء الرصافة وباب الطاق.
وفيها توفي أبو الحسن علي بن محمد السمسمي الأديب، وابن الدقاق النحوي، وأبو الحسين بن بشران المحدث، وعمره سبع وثمانون سنة، والقاضي أبو محمد بن أبي حامد المروروذي قاضي البصرة بها، وأبو الفرج أحمد بن عمر المعروف بابن المسلمة، الشاهد، وهو جد رئيس الرؤساء، وأحمد بن محمد بن أحمد بن القاسم أبو الحسن المحاملي، الفقيه الشافعي، تفقه على أبي حامد، وصنف المصنفات المشهورة، وعبيد الله بن عمر بن علي بن محمد بن الأشرس أبو القاسم المقريء، الفقيه الشافعي. ثم دخلت:

.سنة ست عشرة وأربعمائة:

.ذكر فتح سومنات:

في هذه السنة فتح يمين الدولة في بلاد الهند عدة حصون ومدن، وأخذ الصنم المعروف بسومنات، وهذا الصنم كان أعظم أصنام الهند، وهم يحجون إليه كل ليلة خسوف، فيجتمع عنده ما ينيف على مائة ألف إنسان، وتزعم الهنود أن الأرواح إذا فارقت الأجساد اجتمعت إليه على مذهب التناسخ، فينشئها فيمن شاء، وأن المد والجزر الذي عنده إنما هو عبادة البحر على قدر استطاعته.
وكانوا يحملون إليه كل علق نفيس، ويعطون سدنته كل مال جزيل، وله من الموقوف ما يزيد على عشرة آلاف قرية، وقد اجتمع في البيت الذي هو فيه من نفيس الجوهر ما لا تحصى قيمته.
ولأهل الهند نهر كبير يسمى كنك يعظمونه غاية التعظيم، ويلقون فيه عظام من يموت من كبرائهم، ويعتقدون أنها تساق إلى جنة النعيم.
وبين هذا النهر وبين سومنات نحو مائتي فرسخ، وكان يحمل من مائة كل يوم إلى سومنات ما يغسل به، ويكون عنده من البرهميين كل يوم ألف رجل لعبادته وتقديم الوفود إليه، وثلاثمائة رجل يحلقون رؤوس زواره ولحاهم، وثلاثمائة رجل وخمسمائة أمة يغنون ويرقصون على باب الصنم، ولكل واحد من هؤلاء شيء معلوم كل يوم.
وكان يمين الدولة كلما فتح من الهند فتحاً، وكسر صنماً يقول الهنود: إن هذه الأصنام قد سخط عليها سومنات، ولو أنه راض عنها لأهلك من تقصدها بسوء، فلما بلغ ذلك يمين الدولة عزم على غزوه وإهلاكه، ظناً منه أن الهنود إذا فقدوه، ورأوا كذب ادعائهم الباطل، دخلوا في الإسلام، فاستخار الله تعالى وسار عن غزنة عاشر شعبان من هذه السنة، في ثلاثين ألف فارس من عساكره سوى المتطوعة، وسلك سبيل الملتان، فوصلها منتصف شهر رمضان.
وفي طريقه إلى الهند برية قفر، لا ساكن فيها، ولا ماء، ولا ميرة، فتجهز هو وعسكره على قدرها، ثم زاد بعد الحاجة عشرين ألف جمل تحمل الماء والميرة، وقصد أنهلوارة، فلما قطع المفازة رأى في طرفها حصوناً مشحونة بالرجال، وعندها آبار قد غوروها ليتعذر عليه حصرها، فيسر الله تعالى فتحها عند قربه منها بالرعب الذي قذفه في قلوبهم، وتسلمها، وقتل سكانها وأهلك أوثانها، وامتاروا منها الماء وما يحتاجون إليه.
وسار إلى أنهلوارة فوصلها مستهل ذي القعدة، فرأى صاحبها المدعو بهيم قد أجفل عنها وتركها وأمعن في الهرب وقصد حصناً له يحتمي به فاستولى يمين الدولة على المدينة، وسار إلى سومنات، فلقي في طريقه عدة حصون فيها كثير من الأوثان شبه الحجاب والنقباء لسومنات، على ما سول لهم الشيطان، فقاتل من بها، وفتحها وخربها، وكسر أصنامها، وسار إلى سومنات في مفازة قفرة قليلة الماء، فلقي فيها عشرين ألف مقاتل من سكانها لم يدينوا للملك، فأرسل إليهم السرايا، فقاتلوهم، فهزموهم وغنموا مالهم، وامتاروا من عندهم، وساروا حتى بلغوا دبولوارة، وهي على مرحلتين من سومنات، وقد ثبت أهلها له ظناً منهم أن سومنات يمنعهم ويدفع عنهم، فاستولى عليها، وقتل رجالها، وغنم أموالها، وسار عنها إلى سومنات، فوصلها يوم الخميس منتصف ذي القعدة، فرأى حصناً حصيناً مبنياً على ساحل البحر بحيث تبلغه أمواجه، وأهله على الأسوار يتفرجون على المسلمين، واثقين أن معبودهم يقطع دابرهم ويهلكهم.
فلما كان من الغد، وهو يوم الجمعة، زحف وقاتل من به، فرأى الهنود من المسلمين قتالاً لم يعهدوا مثله، ففارقوا السور، فنصب المسلمون عليه السلاليم، وصعدوا إليه، وأعلنوا بكلمة الإخلاص، وأظهروا شعار الإسلام، فحينئذ اشتد القتال، وعظم الخطب وتقدم جماعة الهنود إلى سومنات، فعفروا له خدودهم، وسألوه النصر، وأدركهم الليل فكف بعضهم عن بعض.
فلما كان الغد بكر المسلمون إليهم وقاتلوهم، فأكثروا في الهنود القتل، وأجلوهم عن المدينة إلى بيت صنمهم سومنات، فقاتلوا على بابه أشد قتال، وكان الفريق منهم بعد الفريق يدخلون إلى سومنات فيعتنقونه ويبكون، ويتضرعون إليه، ويخرجون فيقاتلون إلى أن يقتلوا، حتى كاد الفناء يستوعبهم، فبقي منهم القليل، فدخلوا البحر إلى مركبين لهم لينجو فيهما، فأدركهم المسلمون فقتلوا بعضاً وغرق بعض.
وأما البيت الذي فيه سومنات فهو مبني على ست وخمسين سارية من الساج المصفح بالرصاص، وسومنات من حجر طوله خمسة أذرع: ثلاثة مدورة ظاهرة، وذراعان في البناء، وليس بصورة مصورة، فأخذه يمين الدولة فكسره، وأحرق بعضه، وأخذ بعضه معه إلى غزنة، فجعله عتبة الجامع.
وكان بيت الصنم مظلماً، وإنما الضوء الذي عنده من قناديل الجوهر الفائق، وكان عنده سلسلة ذهب فيها جرس، وزنها مائتا من، كلما مضى طائفة معلومة من الليل حركت السلسلة فيصوت الجرس فيقوم طائفة من البرهميين إلى عبادتهم، وعنده خزانة فيها عدة من الأصنام الذهبية والفضية، وعليها الستور المعلقة المرصعة بالجوهر، كل واحد منها منسوب إلى عظيم من عظمائهم، وقيمة ما في البيوت تزيد على عشرين ألف ألف دينار، فأخذ الجميع، وكانت عدة القتلى تزيد على خمسين ألف قتيل.
ثم إن يمين الدولة ورد عليه الخبر أن بهيم صاحب أنهلوارة قد قصد قلعة تسمى كندهة في البحر، بينها وبين البر من جهة سومنات أربعون فرسخاً، فسار إليها يمين الدولة من سومنات، فلما حاذى القلعة رأى رجلين من الصيادين، فسألهما عن خوض البحر هناك، فعرفاه أنه يمكن خوضه لكن إن تحرك الهواء يسيراً غرق من فيه. فاستخار الله تعالى، وخاضه هو ومن معه، فخرجوا سالمين، فرأوا بهيم وقد فارق قلعته وأخلاها فعاد عنها، وقصد المنصورة، وكان صاحبها قد ارتد عن الإسلام، فلما بلغه خبر مجيء يمين الدولة فارقها واحتمى بغياض أشبة، فقصده يمين الدولة من موضعين، فأحاط به وبمن معه، فقتل أكثرهم، وغرق منهم كثير، ولم ينج منهم إلا القليل.
ثم سار إلى بهاطية، فأطاعه أهلها، ودانوا له، فرحل إلى غزنة، فوصلها عاشر صفر من سنة سبع عشرة وأربعمائة.